إقرأ

بداية لنهاية عصر التعليم الجامعي المجاني؟ الحكومة المصرية تسرع عمليات إنشاء الجامعات الأهلية المكلفة - إقرأ

سرعت الحكومة المصرية خطواتها لإنشاء الجامعات الأهلية (حكومية بمصروفات) ليتجاوز عددها خلال ثلاث سنوات فقط أعداد الجامعات الحكومية المجانية التي يعود تاريخها إلى 100 عام، وهو ما يشكل بداية النهاية لعصر التعليم الجامعي المجاني في مصر.

وأضحت الجامعات الحكومية هي الحلقة الأضعف في التعليم العالي، ويتزامن ذلك مع تراجع مخصصات التعليم وسعي الحكومة لتحقيق أرباح مالية من وراء التعليم الجامعي على المدى البعيد.

وأبدت وزارة التعليم العالي في مصر موافقة رسمية خلال اجتماعها الأسبوع الماضي على إنشاء 12 جامعة أهلية جديدة في محافظات متفرقة، من المقرر أن يدخل 10 منها الخدمة مع بدء العام الدراسي الجديد ليصل عدد الجامعات الأهلية إلى 32 جامعة.

أبعاد عديدة وراء تسريع عملية التوسع

كشف مصدر مطلع بوزارة التعليم العالي المصرية لـ"عربي بوست" أن الموافقة على إنشاء الجامعات جاء في وقت قياسي، أسوة بقرارات الموافقة على الجامعات الخاصة والتي تكون بمصروفات أيضًا.

وقال المتحدث إن الإعلان عن دخول 10 جامعات الخدمة مع بدء العام الدراسي المقبل جاء بالرغم من اعتراض البعض لأنه جاء دون الانتهاء من كافة التجهيزات الخاصة بالكليات ومقار إقامة الطلاب وتجهيزات المعامل، وسيكون الاعتماد في البعض منها على التجهيزات المتاحة في الجامعات الحكومية المجانية.

وأضاف المتحدث أن الحكومة لم تتعلم الدرس حيث سبق وقامت بافتتاح جامعات أهلية بدون تجهيزات كافية مما تسبب في حوادث كثيرة آخرها انقلاب حافلة تقل طلاب كلية الطب بجامعة الجلالة (أهلية)، والسبب افتتاح الجامعة دون توفير سكن لأكثر من 70% من الطلاب.

وأضاف المصدر ذاته أن الجامعات الجديدة بها ما يقرب من 90 كلية أغلبها كليات طبية يتزايد الإقبال عليها من الطلاب، وأن توزيعها الجغرافي يستهدف التسهيل على الطلاب في المحافظات لدخول الكليات التي يرغبون فيها دون الحاجة لتحمل مصاريف التنقل والإقامة في محافظات أخرى للتعامل مع الإقبال المتزايد على الجامعات الأجنبية في حال عدم قبولهم في الجامعات الحكومية.

وأشار إلى أن هناك أبعادًا عديدة وراء تسريع عملية التوسع في الجامعات الأهلية، إذ إنها تستهدف استيعاب زيادة الطلاب الملتحقين بالتعليم الثانوي العام خلال السنوات الأخيرة، كما أن ميزانيات التعليم الحالية لا تكفي للتوسع في إنشاء جامعات لا تدر عائدًا ماديًا يستوعب الزيادة في أعضاء هيئات التدريس.

وقال مصدر "عربي بوست" إن الاتجاه نحو تحمل تكاليف البناء في مقابل وجود عوائد تخفف مما تتحمله الموازنة من أجور ومرتبات لصالح توجيهها إلى البحث العلمي الذي تضاءلت ميزانيته بشكل كبير خلال الثلاث سنوات الماضية.

وذكر أن الهدف أيضًا جذب أكبر عدد ممكن من الطلاب الأجانب وتوفير أماكن في الجامعات الحكومية التي من المتوقع أن تشهد تراجعًا في أعداد المقبولين بها لصالح إتاحة أماكن للجنسيات العربية التي تدفع مصروفات توفر العملة الصعبة في أوقات تعاني فيها مصر شحًا في الدولار.

لافتًا إلى أن تسريع عملية البناء والتشييد تهدف لخلق صورة ذهنية لدى المواطنين بأن التعليم الجامعي لن يكون مجانًا، وأن الإتاحة يمكن أن تكون للمتفوقين والذين ليس لديهم القدرة على دفع مصروفات الجامعات الأهلية والخاصة.

وأشار إلى أن وزارة التعليم العالي تعمل على خلق فرص عمل لأعضاء هيئات التدريس في الجامعات الحكومية داخل الكيانات الأهلية الجديدة، وهي تفوق ما يحصلون عليه في جامعاتهم الأساسية، وبالتالي فإنه وإن كانت جودة التعليم الحالية تتركز بالأساس على الجامعات الحكومية وبعض الجامعات الخاصة.

وقال المتحدث إنه في المستقبل القريب من المتوقع أن يتغير الأمر لتنتقل الجودة إلى الجامعات الأهلية التي تقبل أعدادًا أقل من الطلاب مقارنة بالجامعات الحكومية.

وارتفع عدد الجامعات في مصر إلى 116 جامعة بدلاً من 48 جامعة (حكومية وخاصة)، وسيصل العدد إلى 126 جامعة بإضافة 10 جامعات أهلية جديدة العام المقبل، ويبلغ عدد أساتذة الجامعات في مصر حوالي 140 ألف عضو هيئة تدريس، يغطي مختلف المجالات في جميع جامعات ومعاهد مصر.

ويتوزع هذا العدد بين 27 جامعة حكومية، 32 جامعة خاصة، 20 جامعة أهلية (تعمل الآن)، 10 جامعات تكنولوجية، 9 فروع لجامعات أجنبية، 6 جامعات باتفاقيات دولية، جامعتين باتفاقيات إطارية، وجامعة بقوانين خاصة تُشرف عليها وزارة التعليم العالي.

التضييق على الجامعات الخاصة لصالح الأهلية

يمكن ملاحظة الاهتمام الحكومي بالتوسع في إنشاء الجامعات الأهلية على حساب الحكومية، فخلال 10 سنوات تم إنشاء 4 جامعات حكومية فقط، بينما تم تأسيس 16 جامعة أهلية.

وأكد أحد أعضاء هيئة التدريس بجامعة القاهرة أن تلك الخطوات تعد التفافاً على الدستور المصري الذي يتيح مجانية التعليم الجامعي بإنشاء جامعات بمسميات مختلفة تُجبر الطلاب على دفع مصروفات.

بينما كان من الممكن تطوير التعليم الحكومي ببرامجه التي تقدم مقابل مصروفات مع إتاحة الفرصة بشكل أكبر للقطاع الخاص بدلاً من أن تقوم الحكومة ذاتها بالتضييق على الجامعات الخاصة، وفي الوقت ذاته هي تهمل الجامعات الحكومية التي لن يكون لديها حضور إيجابي في المستقبل القريب، حسب المتحدث.

وأوضح أن الجامعات الحكومية سيتم وصمها بأنها تقبل الطلاب الفقراء، وسيكون الاهتمام بمن يدفع المال لتلقي الخدمة التعليمية، وأن ما حدث في التعليم قبل الجامعي يتكرر الآن بالنسبة للجامعات الحكومية التي أضحت طاردة للطلاب في غالبية التخصصات، بخاصة الكليات النظرية التي تقبل آلاف الطلاب سنويًا ممن لم يكن لديهم المقدرة للالتحاق بالجامعات الخاصة أو الأهلية.
وأشار المتحدث نفسه في تصريح لـ"عربي بوست" أنه كان يمكن القبول بجامعات أهلية منخفضة المصروفات لكنها تعد أقرب للجامعات الخاصة.

وشدد على أن ما يحدث في الوقت الحالي سيكون له انعكاساته السلبية على جودة المحتوى التعليمي، وسيكون أعضاء هيئة التدريس في حالة تشتت بين عملهم بالجامعات الأهلية والخاصة أو التفرغ للجامعات الحكومية.

كما أن التوجهات الحالية للحكومة تقضي على مبدأ تكافؤ الفرص بين الطلاب، والذي من المفترض أن يُبنى عليه أي مشروع تعليمي وطني، يقول مصدر "عربي بوست".

تعميق المشكلات الطبقية بين الطلاب

وتختلف المصروفات الدراسية بين الجامعات الحكومية وغير الحكومية، فلا تزيد رسوم الكليات الحكومية للسنة الدراسية عن مئات الجنيهات، بينما تتجاوز مصروفات الخاصة والأهلية حاجز 200 ألف جنيه.

ورغم الزيادة الملحوظة في عدد الجامعات المصرية ضمن التصنيفات العالمية الشهيرة مثل تصنيف "كيو إس" (QS)، فإن تمثيلها في أعلى ترتيب الجامعات العربية متراجع مقارنة بدول مثل السعودية والإمارات وقطر ولبنان.

ويؤكد خبير تربوي أن الحكومة المصرية تستهدف حصد ملايين الجنيهات سنويًا وراء الجامعات الأهلية، وفي حال كانت النوايا في أن تذهب لتطوير البحث العلمي والصرف على تطوير المنظومة التعليمية سيكون ذلك إيجابيًا، لكن الأزمة في أن خطط الحكومة الحالية تساهم في تعميق المشكلات الطبقية بين المواطنين بما فيهم الطلاب أيضًا.

وسيؤدي ذلك لأمراض اجتماعية قد تكون بحاجة لأموال تفوق ما قد تحصله من الطلاب سنويًا، لأن من ساهم في إحداث توازن مجتمعي هو أن الطبقات الفقيرة تمسكت بالتعليم باعتباره الوسيلة الوحيدة التي تقود للارتقاء المجتمعي.

وأشار إلى أن إجهاض أحلام الفقراء في التعليم العالي والوظائف الجديدة التي تساهم في تحسين أوضاعهم سيكون كارثيًّا، لأن هؤلاء ستتولد لديهم غريزة الانتقام من الدولة، كما أن الوضعية الراهنة التي تبدي فيها الدولة انفتاحًا على الطلاب الأجانب على حساب المصريين تحديدًا في كليات الطب، سوف تترك أيضًا آثارًا سلبية تؤثر على انتماءات الطلاب وأسرهم.
مشيرًا إلى أن تحسين جودة التعليم عبر الجامعات الأهلية من الممكن أن يتحقق لأنها تقبل أعدادًا قليلة وتستعين بأعضاء هيئة تدريس الجامعات الحكومية، وهؤلاء لديهم قدر عالي من الكفاءة قد تفوق الجامعات الخاصة.

وأوضح أن الحكومة المصرية تهدف لتغيير مفاهيم قديمة تعاملت مع التعليم باعتباره منفعة عامة لكي يصبح استثمارًا تجاريًّا بالنسبة لها، وإذا كان دخولها مثلًا على خط الاستثمارات العقارية ومزاحمة القطاع الخاص فإن ذلك لا يترك تأثيرات على مستوى العنصر البشري، بل أنه يساعد في خفض أسعار العقارات، بعكس سياساتها مع التعليم التي ترسخ غياب المساواة الاجتماعية، فهي تحرم غير القادرين من دراسة التخصصات المميزة المطلوبة في سوق العمل التي توفرها الجامعات بمصروفات باهظة.

ويطلق مصطلح الجامعات الأهلية للإشارة إلى الجامعات شبه الحكومية، التي تخاطب شريحة محددة من المجتمع؛ إلى جانب ذلك، تُعد هذه الجامعات غير هادفة للربح، إذ تعيد ضخ جميع الأموال في ميزانية الهيئة التعليمية من جديد، لتطوير المرافق والخدمات بالجامعة، ولا يوجد اختلاف بين الجامعات الأهلية والحكومية من الناحية الإدارية، فكلاهما تحت إشراف المجلس الأعلى للجامعات، لكن توجد عدة فروق بين الكليات الأهلية والحكومية من الناحية العملية.

لم يكن التعليم مجانيًا قبل عام 1950 حتى تولى الدكتور طه حسين منصب وزير المعارف، وكان شرطه لتولي المنصب إقرار مجانية التعليم الأساسي حتى المرحلة الثانوية، وبعد سنوات قليلة، أصدر الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر قرارًا بأن يكون التعليم الجامعي مثل الأساسي مجانيًا مع توسع في إنشاء الجامعات الحكومية.

تراجع مخصصات التعليم خفض الأماكن المجانية للطلاب

ظلت جميع الجامعات المصرية تحت الإشراف والإدارة والتمويل الحكومي حتى عام 1992، حين صدر قانون إنشاء الجامعات الخاصة. وفي عام 2009، صدر قانون تنظيم إنشاء الجامعات الخاصة والأهلية، الذي عرّف الجامعة الأهلية على أنها مؤسسة لا تهدف للربح وأموالها أموال عامة.

وعدّل البرلمان المصري عام 2019 القانون بحيث صار للشخصيات الاعتبارية العامة أحقية إنشاء الجامعات الأهلية، وبناء عليه أصبحت للحكومة أحقية في إنشاء هذا النوع من الجامعات. وبعد 3 أعوام فقط، أعلنت الحكومة بدء الدراسة في 12 جامعة أهلية جديدة دفعة واحدة في 12 محافظة بتكلفة بلغت 39 مليار جنيه.

ودافع مصدر مطلع بوزارة التعليم العالي عن هذا التوجه بتأكيده على أن الجامعات الأهلية لا تلغي مجانية التعليم الجامعي الذي يظل متاحًا للعدد الأكبر من الطلاب.

مشيرًا إلى أن استحداث برامج تعليمية ومتطورة أمر مكلف للغاية ويحتاج إلى مساهمات من أولياء الأمور لتقديم تعليم يتماشى مع سوق العمل بدلاً من اتجاه أعداد كبيرة للدراسة في جامعات أجنبية خارج مصر، وهؤلاء لم يجدوا أماكن في الجامعات الحكومية أو الخاصة ما برهن على وجود حاجة لجامعات جديدة.

وأوضح أن أعداد الطلاب في الخارج يتجاوز 180 ألف طالب، وأن هذا الرقم تقلص خلال الثلاث سنوات الماضية ولم يتجاوز 70 ألف طالب، مشيرًا إلى أن الحروب التي اندلعت في روسيا والسودان كانت دافعًا للتوسع السريع في هذا النموذج من التعليم الجامعي.

مضيفًا أن زيادة الإقبال على البرامج الدراسية بمصروفات في الجامعات الحكومية شجع على التوسع في الجامعات الأهلية، إذ إن وجود برامج مجانية وبمصروفات داخل الجامعة الواحدة أفرز مشكلات بين الطلاب، وهناك رغبة في أن يكون التركيز على الأقسام المتطورة في الجامعات الأهلية وليس مجرد الاستعانة ببرامج أجنبية في الجامعات الحكومية.

وأشار إلى أن الحكومة تهدف أيضًا لعدم ترك المجال للقطاع الخاص في أن يتحكم بأولياء الأمور، ومع إنشاء الجامعات الأهلية لم تحدث طفرات كبيرة في المصروفات في ظل تراجع قيمة الجنيه خلال السنوات الماضية، وبدا أن هناك قدرًا من التوازن على المستوى المادي، كما أنه ساهم في الارتقاء بالمنافسة بين الجامعات الحكومية والأهلية والخاصة.

وأكد أن التركيز على الكليات الطبية بشكل أكبر يرجع لكونها الأكثر استقطابًا للطلاب المصريين أو الأجانب، وهي تظل الهدف الأول بالنسبة لخريجي الثانوية العامة من الشعبة العلمية، وما زالت أقسام الذكاء الاصطناعي وغيرها من التخصصات الحديثة لا تحظى بالقدر ذاته.

وتؤكد دراسة اقتصادية لمركز حلول للسياسات البديلة بالجامعة الأميركية أن تراجع مخصصات التعليم أدى إلى تخفيض الأماكن المجانية المتاحة أمام خريجي المدارس الثانوية الحكومية في الجامعات.

لافتة إلى ارتفاع نسبة طلاب المدارس الحكومية 25.5% خلال السنوات العشر الماضية، بينما يمثلون 81% فقط من خريجي الجامعات، حيث توجه المقاعد المخصصة لهم إلى الطلاب القادرين على دفع تكلفة الدراسة بمصروفات عالية داخل الكليات الحكومية.

تظهر الدراسة حرص الجامعات الحكومية على التوسع في إنشاء برامج دراسية بمصروفات مرتفعة العائد، بعضها يدفع بالدولار، وتدريس مناهج متقدمة غير موجودة بالأقسام المجانية، لتوفير موارد ذاتية للإنفاق على أنشطتها، مؤكدة أن هذه السياسات تدلل على تراجع الحكومة عن مسؤولياتها في توفير فرص التعليم المجاني للجميع.

أخبار متعلقة :