تذبل القرى وتبقى الذكريات - إقرأ

مكه 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
تذبل القرى وتبقى الذكريات - إقرأ, اليوم الأربعاء 19 مارس 2025 07:33 مساءً

القرية الصغيرة القابعة بين فكي جبل، استعمرتها الوحدة وسُلبت منها الحياة، وسيطر عليها الهدوء، وسكنتها أرواح مفقودة.

رحل الكثير من سكانها ما بين موت وهجرة، وبقيت الأطلال شامخة رغم خواء الروح وانطفائها.

أهداها المسافر الألحان وتمايل طربا بذكرى الطفولة، وجعل من مغامرات لسعة الجوع شريطا يتكرر على مسمع الأبناء.

قصة التيس المسروق وعصيانه الأوامر، وتكميم الفم لمنع تسرب الثغاء، وسرعة اتخاذ قرار حجره ما بين الصخور العازلة للصدى حتى يسدل الليل ستاره.

لهيب التنور المتواري عن الأنظار ورائحة حنيذ الصيد، وجلسة سمر تتعالى فيها الضحكات بعد نجاح خطة اختطاف ماشية.

دسم المخطوف أضاف للقاء حلاوة ومع شواء الرأس والكوارع أحسن حكاية.

وفي لحظة افتخار يستفيق العاقل من سكرة ((الأنا)) ومن بعد ذكريات الماضي يرجع الوعي في نصابه، ويتذكر مروض الأدغال، أنه وسط أبنائه وأحفاده.

هناك استرجع الحزم في وعظه، والحكمة في قوله، وأدرك فداحة جرم السرقة في تعاليم داره، فيستغفر الله بصوت عالٍ معترفا ((كنا في جهل، وضعف دين، وعواصف الحاجة والجوع تبريرا لسعيه)).

تتوارد القصص من عقول شتى تحت ومض الذكرى حول جمع الحطب من كل الشعاب ونداء الأحجار بأسماء ذات دلالات تسّهل الوصول إليها، ومشقة الحصول على الماء من بطون الصخور في سباق مع الزمن قبيل السحر.

استعارة ثوب الجار، وتقاسم الرغيف، ومشاركة رشفة من حليب الماعز، ومد يد العون في حصاد مزرعة، أو بناء منزل، أوحل نزاع قائم.

واستعراض معاناة جمل الحمولة في عذاب الخدمة وتحمل المشقة، من خلال رفع الأحجار، وأخشاب العمار، وقصب المزارع، وطين أسقف البيوت.

كلام الكبير حد سيف يقضي فيما هو قاض بلا أخذٍ ورد، والإذعان بالسمع والطاعة حتى لو أدمى خنجر الحكم الروح وشق أوردة الجسد.

الكل في مجتمع البساطة كالأب، يُهذب بسياط التربية كل سلوك شاذ، وفقا لدستور العرف القبلي.

سجن العاصي وداؤه ودواؤه عند شيخ القبيلة فيجعل من العصيان آية، ويطفي بالعقوبة كل بذرة تمرد قبل أن ترى النور قط، فيصبح لمن خلفه عبرة وللحق سلطانا وراية.

رحى طحن القمح تدور في يد سيدة خبيرة، تستنجد الحبوب بدائرتي حجري المعمل، من شراسة ضغط يد الإتقان، لكن لا ينفع استجداء، فلا مفر حتى يصبح القمح دقيقا.

صراخ المغرب، ودموع العقاب تنهال بسياط الصوت والضرب، بسبب التقصير في مهام اليوم، ورجاء الغفران مشروط بعدم التكرار.

ملابس مهترئة تحملها الأكتاف إلى ينابيع الماء البعيدة وإلى العيون المتدفقة من سُرر الصخور، لغسلها بالتراب أو بالرماد أو بأوراق الشجر.

غمر الجسد المرهق في مياه الجداول المتجمعة، وقصع القمل مع مطاردة بقايا الصئبان، تحت أشعة الشمس الحارقة، طقوس يومية لتحرير فروة الرأس من الأذى العالق.

ديك القرية هو منبه ما قبل الفجر بعد سكون الليل الطويل، وصياحه إيذانا ببدء يوم جديد.

رحم الله أرواحا عاشت ضنك العيش، وأعاد الله دارا كانت عامرة، وغفر الله لأموات ذكراهم محفورة.

الحمد لله على النعم المنسية، وأدام علينا رغد العيش الحاضرة.

قرى اليوم لا تُقارن بما كانت عليه في الماضي، ولكن تبقى الهجرة نذير شؤم عليها.

نقص الخدمات، وبُعد الجامعات، وتباعد سبل طلب الرزق، شيعت جنازة القرى ودفنت معالمها.

فيا ليت شعري، هل بعد الموت حياة؟ وهل بعد الظلام ضياء؟ وهل بعد الصمت كلام؟

نقطة دمع على سطر جاف وإحساس حبرا ذاب.

أخبار ذات صلة

0 تعليق